الفرق بين المراجعتين ل"جمهورية التحرش"
(←مقدمة) |
|||
سطر 7: | سطر 7: | ||
هذه مقالة كتبها الباحث السياسي "عبده إبراهيم" وأرسلها لفريق أضف لإنتاج المعرفة إيماناَ منه بمبادئ أضف حول إنتاج المعرفة وإتاحتها للجمهور. وهذه المقالة مساهمة منه لتعريف المجتمع بخطورة مشكلة التحرش الجنسي المتفشية بالمجتمع المصري وطلب نشرها في اليوم اليوم العالمي للمرأة. | هذه مقالة كتبها الباحث السياسي "عبده إبراهيم" وأرسلها لفريق أضف لإنتاج المعرفة إيماناَ منه بمبادئ أضف حول إنتاج المعرفة وإتاحتها للجمهور. وهذه المقالة مساهمة منه لتعريف المجتمع بخطورة مشكلة التحرش الجنسي المتفشية بالمجتمع المصري وطلب نشرها في اليوم اليوم العالمي للمرأة. | ||
+ | وتم نشر تلك المقالة على صفحات أضف للتواصل الاجتماعي مثل [https://twitter.com/ArabExpression/status/442249794845954048 تويتر] و [https://www.facebook.com/photo.php?fbid=658824710841855&set=a.257833857607611.62753.246272025430461&type=1&stream_ref=10 فيسبوك] | ||
==نص المقالة== | ==نص المقالة== |
مراجعة 18:29، 10 مارس 2014
مقدمة
هذه مقالة كتبها الباحث السياسي "عبده إبراهيم" وأرسلها لفريق أضف لإنتاج المعرفة إيماناَ منه بمبادئ أضف حول إنتاج المعرفة وإتاحتها للجمهور. وهذه المقالة مساهمة منه لتعريف المجتمع بخطورة مشكلة التحرش الجنسي المتفشية بالمجتمع المصري وطلب نشرها في اليوم اليوم العالمي للمرأة.
وتم نشر تلك المقالة على صفحات أضف للتواصل الاجتماعي مثل تويتر و فيسبوك
نص المقالة
"جمهورية التحرش" لم تعد محض بلاغة خطاب!
إعداد:عبده إبراهيم
(باحث في العلوم السياسية)
عرفت مصر مؤخراً ظاهرة التحرّش الجنسي وجرت محاولات محدودة لرصدها ومعالجتها إلا أنها آخذة في التوحش، خصوصاً مع وجود بيئة ملائمة لتفاقمها، وقد رصدت العديد من الشهادات البحثية والواقعية هذه الظاهرة؛ فمن دراسة حديثة (نوفمبر 2013م) أجرتها مؤسسة تومسون رويترز واستعانت فيها بخبراء متخصصين في مجال قضايا المرأة في العالم، وصفت مصر بأنها "أسوأ مكان بالعالم العربي يمكن أن تعيش فيه المرأة"(1) وصولا إلى توصيف رئيس تحرير صحيفة مصرية رصينة (فبراير 2014) بأن مصر أصبحت "أخطر بلد يمكن أن تعيش فيه النساء" (2) و يمكن لهاتين الشهادتين أن يقدما جزءاً من الواقع الذي باتت تعيش فيه المرأة في مصر خصوصاً فيما يتعلق بظاهرة التحرّش الجنسي.
الدراسة المشار إليها )والتي قامت بها مؤسسة تومستون رويترز( أظهرت أن "القوانين التي تميز بين الجنسين، وزيادة معدلات الاتجار بالنساء ساهمت إضافة إلى التحرّش الجنسي، وارتفاع معدلات ختان الإناث، وزيادة العنف، وصعود التيار الديني بعد انتفاضات الربيع العربي" في إنزال مصر إلى قاع قائمة تضم 22 دولة عربية، وإن لم يختلف الأمر كثيراً - بحسب الدراسة - بعد أن قام الجيش بعزل محمد مرسي في يوليو2013م إثر احتجاجات حاشدة على حكمه، فالآمال في نيل حريات أكبر ضعفت مع المخاطر التي تواجهها المرأة في الشارع يوميا"(3). كما أشار مقال رئيس التحرير المشار إليه أيضاً إلى أنه "صارت لدينا حيوانات بشرية كثيرة تغتصب أطفالا لم تتعد أعمارهن الخامسة، وصرنا أخطر بلد يمكن أن تعيش فيه النساء بفعل وباء التحرش الجنسي المتفاقم، والمروءة التي كان يتميز بها المجتمع تتراجع بصورة كبيرة، ومستوى الحوار في الشارع صار منحطًا بدرجة تجعل الكثير من الأسر تخشى من اصطحاب أطفالها الصغار حتى لا يستمعوا لهذا التلوث السمعي".(4)
ما ترصده هذه الشهادات المتتابعة زمنياً تؤكد أن مصر لم تصل إلى هذه الحالة بين يوم وليلة؛ وإنما هو تراكم سنوات للتجاهل الرسمي، وعدم المبالاة المجتمعية، إلا فيما ندر، لقضية التحرّش الجنسي، التي عرفتها مصر كـ"ظاهرة" و"موسم" قبل اندلاع ثورات الربيع العربي بسنوات قليلة. كانت الظاهرة قد انتشرت مع بروز "تقليد" مشاركة الممثلين في الترويج لأفلامهم السينمائية بمشاركة الحضور في الحفلات الجماهيرية في السينما، وهو الأمر الذي كان يمثل بيئة ملائمة للتحرّش، وقد استمر هذا الوضع لفترة وزادت حالاته، ولم يعد الشارع المصري يتعاطى مع الظاهرة بما تستحق، بل كانت هناك معارك حقيقية لعل بعضنا خاضها مع أهل الفتيات من أجل تقديم شكاوى ضد المعتدين؛ وقد كانت - وللعجب - حجة أهل الفتاة (5) "يعني نضيع مستقبله علشان حاجة بسيطة زي دي بتحصل كل يوم"، وهم هنا لا يتخلون عن حق ابنتهم فقط، بل يسوغون للمتحرش أن يستمر فى جرمه بعدما أصبح الأمر يوميًا وعاديًا، إلا أن الأهالي في معظم الأحوال يعزفون عن مقاضاة المتحرش خوفًا مما يسمونه "الفضيحة" التي يزعمون أنها ستتلبس الفتاة وعائلتها طوال الحياة، وهو ما يدل على هيمنة المعايير المقلوبة التي صارت تحكم علاقات المجتمع الاجتماعية والثقافية والقانونية.
ساهم تعامل المجتمع بهذه البلادة في زيادة وانتشار هذه الجريمة، والتي انتشرت في ربوع الوطن خصوصاً محافظتي القاهرة والاسكندرية بل ووصلت الظاهرة إلى محافظات الصعيد (6) المعروف بسيادة تقاليد وقيم قبلية وثقافية مختلفة عن السائدة في المدن، وكذلك محافظات مصر الأخرى مما جعل مصر "جمهورية تحرش" كواقع مرير وليس مجرد تشبيهات بلاغية على ألسنة الكتاب والمحللين.
تطورت أساليب المتحرشين كذلك، فبعد أن كانت الحالات فردية أصبحت تقام حفلات التحرش الجماعية، وصارت التجمعات في ميدان التحرير والميادين الأخرى لا تعترف بالأعياد أو بعروض الأفلام - كما في السابق - ووصلنا إلى مجتمعات التحرش المؤقتة التي يتم تشكيلها على عجل للتحرش، والتي يُمارس فيها "هتك العرض" في الطريق العام بشكل مؤقت، ثم يتم تفكيكها بمجرد انتهاء مهمتها، وهو شكل تحدثت عنه العديد من الشهادات لفتيات تعرضن للتحرش أو من أعضاء بعض حملات وحركات مكافحة التحرش التي تشكلت لمواجهة هذه الظاهرة المتفاقمة.
وقد انعكس شيوع هذا السلوك على قيم المجتمع وسلوكه فقد تزايدت الظاهرة بحيث لم تعد تتوقف على أصحاب مستوى ثقافي أو تعليمي أو عمري أو مالي معين، ففي الواقعة التي حدثت مؤخرا (فبراير 2014م) تكسيرا لكل هذه المعايير إذ اعتدى "مهندس ميكانيكا يبلغ من العمر 50 عاما على طالبة جامعية في طريقها إلى منزلها بمدينة الرحاب (شرق القاهرة) في أتوبيس (خاص بالمدينة) واعتدى عليها "هتك عرضها" واستغاثت بالسائق الذي اقتاده إلى قسم الشرطة"(7)، ومن ناحية أخرى وفي إطار المعايير المقلوبة أصبح المتحرشون يعاقبون الضحايا بالموت لرفضهن ممارساتهم الإجرامية كما حدث في مدينة طنطا محافظة الغربية عندما دهس متحرش فتاة اعترضت على ممارساته الإجرامية(8).
تفاقم ظاهرة التحرش بعد الثورة المصرية:
فقدت الثورة المصرية مساحات عريضة من صورتها السلمية البيضاء، فبعد أن كانت الثورة المصرية قد صاغت نموذجا جديدا في علم الثورات في تاريخ الإنسانية بثورتها البيضاء السلمية الضاحكة الملهمة للبشرية والمعلمة للإنسانية، قُل ما شئت، فقد وردت هذه الأوصاف وأكثر منها على ألسنة قادة العالم ومثقفيه، تغيرت هذه الصورة كثيرا(9) ومبكراً وذلك منذ تعرض الصحفية "لارا لوجان" مراسلة محطة CBS الأمريكية أثناء تغطيتها لفرحة المصريين برحيل مبارك داخل ميدان التحرير 11 فبراير 2011م،(10) وقد تحدثت بنفسها عما تعرضت له في برنامج تلفزيوني أمريكي شهير (برنامج 60 دقيقة) عقب عودتها إلى بلادها؛ إلا أن هذه الحادثة لم تأخذ أي مساحة من الاهتمام في الإعلام المصري الذي كانت تسيطر عليه نشوة الانتصار وهو الأمر التي شجع هذه الظاهرة على التفاقم بصورة لم تعد محل سيطرة في الوقت الراهن.
وتصاعدت الظاهرة في مصر ورغم استهجانها إلا أنها لم تأخذ حقها من النقد خوفاً على صورة الثورة المصرية فوصلنا إلى حالة موحشة من انتشار هذا السلوك وسيطرته على المجال العام المصري حيث توالت الممارسات العنيفة ضد المرأة وإن لم يكن هذا الأمر خاصاً بالثورة، وإنما الزخم الثوري خلق مساحة استطاع المتحرّشون استغلالها في ظل غياب الوازع الديني أو الرادع الرسمي والقانوني أو المانع الاجتماعي ناهيك عن الاختفاء الأمني المتعمد أو في معظم الأحيان "المُعاقب" على فعل الثورة "مش أنتم اللي عايزين كده استحملوا بقى"، فالمرأة كانت ولا تزال شريكا أساسياً في الثورة المصرية وقد تعرضت لصنوف من العنف لا يمكن تخيلها حتى وهي تسير في مسيرات خاصة بها ومن ذلك ما تعرضت له النساء المشاركات في مسيرة نسائية في الثامن من مارس 2011م، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة من اعتداءات مختلفة سواء لفظية أو بدنية، رغم أن الزخم الثوري كان حاضراً ولم يكن أحداً مستنكراً لتظاهرهن، واستمرت هذه الاعتداءات ولم تتوقف، بل فتحت شهية المعتدين؛ حيث شهدت الذكرى الأولى من ثورة 25 يناير تعرض العديد من الفتيات والسيدات للتحرّش ولن يُمحى 26 يناير 2012م كـ "يوم أسود" في الذاكرة الجمعية المصرية من التاريخ، نظراً لما شهده هذا اليوم من تحرش جنسي نقلت الفضائيات صورة مشوهة لما حدث فيه، وبقيت الأحداث الحقيقية متضمنة في شهادات من تعرضن للتحرّش في الميدان، والتي نشرتها بعض وسائل الإعلام المختلفة ووثقتها مواقع إلكترونية لمنظمات مدافعة عن المرأة على الإنترنت وإن كانت قد حذفتها فيما بعد(11) مراعاة للحقوق الشخصية للضحايا، ومنها إحدى المنظمات المدافعة عن حقوق المرأة التي عرضت القضية في ورقة موقف(12) قالت خلالها: "شهدت منطقة ميدان التحرير ومحيطه جرائم اغتصاب مروعة في الشهور القليلة الماضية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من الإجرام والتوحش والعنف، وقد بدأ المؤشر التصاعدي لتلك الجرائم يتزايد منذ تظاهرات أواخر نوفمبر 2012 والتي شهدت تطوراً خطيراً تمثل في وقوع حالات اغتصاب جماعي مؤكدة وموثقة في محيط ميدان التحرير والشوارع المحيطة به خلال الفترة من 21 نوفمبر إلى 25 نوفمبر وسط إدانة شديدة الخفوت وتجاهل من معظم الأطراف الرسمية وغير الرسمية. وكنتيجة لحالة الإنكار والتواطؤ من الجميع، فقد استمرت تلك الجرائم واتسع نطاقها أثناء تظاهرات الذكرى الثانية للثورة، والتي بدأت يوم 25 يناير 2013م؛ حيث تم توثيق وتأكيد وقوع حالات اغتصاب جماعي متوحشة تمت كلها بنفس الأسلوب والنمط، واستهدفت جمهور النساء بغض النظر عن انتماءاتهن السياسية؛ حيث كان معظم اللاتي تعرضن لتلك الجرائم إما من جمهور المتظاهرات أو من الفرق الميدانية الناشطة التي تعمل ضد التحرّش أو ضد الفتيات المارات.
وتمكنت جهود الرصد من تأكيد وقوع أكثر من 19 حالة اغتصاب واعتداء جنسي. وتشير جهود الرصد والتوثيق الأولية لتلك الجرائم وللطرق والوسائل الوحشية التي تمت بها إلى وجود أنماط متكررة في أشكال الاعتداء ووسائله وتواجد أفراد ومجموعات لم تحدد هويتهم حتى الآن تمارس تلك الجرائم وتتعامل مع المظاهرات والفعاليات السياسية باعتبارها فرصة سانحة لاستباحة أجساد النساء، وقد تصاعدت وتيرة الأحداث واتسع نطاق تلك الجرائم ليشمل مناطق جغرافية أخرى مثل محاولة اختطاف الفتيات من أحد مخارج كوبري 6 أكتوبر خلال ليلتي 27 و28 يناير 2013م، ومحاولة اقتحام مقر اجتماع إحدى المجموعات العاملة في مجال التصدي الميداني لجرائم العنف الجنسي على خلفية التحرّش بإحدى المشاركات في الاجتماع، والتي تطورت لاشتباكات ومحاولة اقتحام المكتب الذي تواجدت فيه الفتاة" هكذا عبرت المنظمة بدقة عن مدى التدهور الذي وصلت إليه البلاد؛ ورغم ذلك لم نجد الاهتمام المناسب على أي مستوى رسمي أو مجتمعي بمعالجة الظاهرة، وكأن هذه المنظمة وغيرها من المنظمات والبرامج والمبادرات ترصد مجتمعات خارجية غير المجتمع المصري الذي نعيش فيه.
ولم تتوقف هذه الممارسات أو يتم معالجتها، بل تفاقمت ووصلت إلى مستويات مروعة تمثلت فيما تعرضن له السيدات والفتيات في ميدان التحرير في 30 يونيو 2013م، وهو ما يمكن أن نشير إليه في شهادة عضو مبادرة قوة ضد التحرش والاعتداء الجنسي الجماعي(13) الذي كان متواجداً بميدان التحرير والشوارع المحيطة به في الثلاثين من يونيو، ورصد وقائع الاعتداءات ويقول: "كنت أسير في ميدان التحرير، في 30 يونيو 2013 الساعة 9:50 مساء، وكنت أبحث عن زملائي من قوة ضد التحرش، وكان التحرش قد بدأت حدته في التصاعد بشوارع محمد محمود والمنطقة الواقعة بين شارع التحرير ومطعم هارديز.. قبل دقائق من الحادثة، رأيت صفين من الرجال يمسكون في أيدي بعضهم البعض، وقد بدوا كأنهم يعرفون بعضهم، وكانوا كما لو أنهم يشعرون بالفرحة والاحتفال.. تابعت البحث عن زملائي، وفي لحظة معينة، بينما كنت أسير باتجاه المتحف المصري، في مواجهة فندق كليوباترا بالاس المهجور، رأيت حشوداً من الرجال تركض باتجاه تجمع من الأشخاص على بعد أمتار، وبدأت أسأل الأشخاص المتواجدين حولي إيه اللي بيحصل؟، فأخبرني شخص كان يبتعد عن التجمع بأنها مشاجرة .. من تجارب سابقة في التطوع مع قوة ضد التحرش، فإن التجمعات الملتفة حول ضحية الاعتداء يحاولون أن يبعدوا الآخرين، عبر نشر الشائعات عن الضحية بأنها جاسوسة أو عاهرة أو يحاولون إلهاء الأشخاص عبر إخبارهم بأنها مشاجرة عادية.. توجهت إلى الداخل لمعرفة ما يحدث، وسألت مجددًا أحد المتواجدين حول الحشد الذي كان يشاهد ما يحدث من الصفوف الجانبية، قال: "فيه نسوان جوه، وكانت له لهجة صعيدية، وبدا مصدومًا بشدة، ولم يُكمل جملته".
لم ينته الأمر عند هذا الحد فقد رصدت "الإذاعة الألمانية الدولية" استمرار حالات التحرّش لعدة أيام في ميدان التحرير وأثناء الاحتفال بعزل الرئيس محمد مرسي، مشيرة إلى أن الميدان شهد وقوع حالات تحرّش كثيرة وانتفض من أجل منع حوادث السرقة "أثناء تواجد DW عربية بالميدان تحركت قوة ضد التحرش لوقف حادثة، عن طريق سلسلة بشرية تقتحم الدائرة المحيطة بالضحايا، حيث سجلت أربع حالات "فقط" في السابع من تموز/ يوليو 2013، وتمّ التدخل لوقف ثلاثة منها، وفى التوقيت نفسه أحاط المتظاهرون بلص كان يسرق المتواجدين. وتعرض اللص لهجوم عنيف من كافة المتظاهرين، بينما لم يتدخل المتظاهرون للقبض على المتحرشين". وتنشر الإذاعة شهادة الناشطة سلمى سعيد: "كلما حاولنا الإمساك بمتحرش لتسليمه للشرطة نفشل، لأن جميع الشباب الواقف في دائرة يدعى أنه لم يلمس أو يقترب من الفتاة، وإنما كان يحاول إنقاذها"،(14) وهكذا فتطور الميدان بعد أن كان في السابق يقدم نموذجاً للأخلاق أصبح الآن بعد أن فقد رواده الحقيقيين يعاقب السارق وفي الوقت نفسه يحمي المتحرّش! وهو ما يؤكد على أن محاولات إفقاد الميدان لرمزيته الثورية النقية لم تتوقف يوماً منذ إعلان انتصار الثورة؛ أي منذ 11 فبراير 2011 واعتماد أسلوب التحرّش الذي يعاقب "الضحية" ويكافئ - كما يعتقدون - "المعتدي" في الوقت نفسه.
استمراراً للتدهور الأخلاقي، لم تعدم مناسبة لأي تجمع من وقوع تحرّشات وبالتالي كانت التوقعات حول الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير معروفة مسبقاً؛ حيث شهدت وقائع مماثلة رصدت القنوات الفضائية جزءاً منها وإن كان الكثير من مذيعي برامج التوك شوز قد تجاهلوا ما يحدث على شاشاتهم في بثها المباشر من ميدان التحرير حتى لا يسيء إلى الجماهير المحتشدة في الميدان ومعظمها لم يعرفه الميدان إلا في مثل هذه المناسبات؛ فقد شهد هذا العام احتفالات من يرفضون الاعتراف بثورة يناير من الأصل ويعتبرونها "نكسة" في ميدان التحرير تحت حماية الشرطة والقوات المسلحة في الوقت الذي تعرض فيه النشطاء والثوريين للضرب في الميادين والشوارع المحيطة بميدان التحرير والميادين الأخرى، ورغم الموقف الإعلامي المتماهي مع احتفالات التحرير والمتجاهل لتجاوزاته فقد أعلنت مراسلة قناة التحرير الفضائية لعدم قدرتها على تجاهل ما يحدث من بشاعته عن وجود حالات تحرّش في الميدان مساء 25 يناير 2014م.(15)
لا يمكن قصر هذه الممارسات الإجرامية على ميدان التحرير بصفة خاصة فالميدان أصبح مناسبة للتجمع ليس إلا، كما أن التحرّش الجنسي أصبح منتشراً بصورة غير مسبوقة في أي تجمعات بشرية أو في وسائل المواصلات، أو الحدائق العامة، وكأنه عقاب جماعي للشعب المصري على ثورته، وكثيراً ما عرضت مواقع الانترنت ومنها: http://www.youtube.com أو http://videoyoum7.com، للعديد من الحالات وهو ما يعبر عن مستوى من التدهور وصلت إليه مصر يستدعي وقفة جادة وشاملة خصوصاً أن الموقع المتقدم الذي تحتله مصر على خريطة التحرّش العالمي بهذا الشكل رغم أن تعريف المصريات لما يعد تحرشاً أضيق بكثير من رؤية الأجنبيات له؛ فالمصريات يرين التحرّش يتمثل في: (لمس جسد الأنثى، التصفير والمعاكسات الكلامية، النظرة الفاحصة لجسد الأنثى، التلفظ بألفاظ ذات معنى جنسي، الملاحقة والتتبع، المعاكسات التليفونية) في حين أن الأجنبيات يرينه بالإضافة إلى ما كل ما سبق: (تعليق صور جنسية أو تعليقات جنسية فى مكان عام، النكات أو القصص الجنسية التي تحمل أكثر من معنى، الإصرار على دعوة الأنثى إلى طعام أو شراب أو نزهات برغم الرفض المتكرر، الإصرار على توصيل الأنثى إلى المنزل أو إلى العمل رغم الرفض المتكرر، طلب أن تعمل/ تبقى الأنثى ساعات إضافية بعد مواعيد العمل/ الدراسة مع عدم وجود ضرورة لذلك).(16)
محاولات محدودة لمواجهة الظاهرة والبحث في أسبابها:
فرضت هذه الظروف بروز العديد من الآليات المجتمعية لمواجهة الظاهرة بعدما غاب أي فعل رسمي رغم تعاقب الإدارات السياسية المختلفة سواء في المرحلة الانتقالية أو مع حكم جماعة الإخوان المسلمين أو مع رحيلهم ولم تجد وسائل الإعلام بداً من تناول العديد من الروايات عن عمليات التحرّش الجنسي والاغتصاب الممنهجة التي تتم في الشوارع علناً، كما سبقتها وظهرت العديد من الحملات وجمعيات المجتمع المدني التي تندد بالتحرّش الجنسي، ومن أبرزها حملة "قوة ضد التحرش والاعتداء" و"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، و"نظرة للدراسات النسوية" ومبادرات "كما تدين تدان" و"فؤادة واتش" و"بهية يا مصر"، و"شفت تحرش"(17)، وتستمر الإبداعات المجتمعية ولن تكون "ثورة البنات"(18) أو شاب يتنكر في زي فتاة ويتعرض للتحرّش وينشر تجربته (19)آخرها لمواجهة العنف المتزايد ضد المرأة في الشارع المصري.
ما سبق الإشارة إليه لا يمكن لأحد إنكاره خصوصاً في ظل الوسائط الحديثة والمواقع الإلكترونية التي رصدت الظاهرة ووثقتها بالفيديو ومن ثم لا يكون سؤال هل حدثت هذه الوقائع أم أن هناك مبالغات في تصويرها والحديث عنها؟ بأهمية ماذا حدث للمصريين ليحتلوا قمة الدول العربية في ظاهرة التحرّش الجنسي؟ وهو أمر لم يتوقف عنده أحد ولم يأخذ حقه من البحث والدراسة؛ فهذه الجريمة /الظاهرة تتفاقم ولا تجد من يوقفها أو حتى يحجمها، فماذا حدث للمصريين جعل المعادلة تنقلب لصالح المتحرّشين؟ فمنذ سنوات قليلة كان من النادر أن ينجو متحرّش بفعلته سواء في المواصلات العامة أو التجمعات البشرية بما فيها الأسواق الشعبية أو الاحتفالات الفنية، أو غيرها، ولكن أصبح اليوم عدد المتحرّشين هو الأكبر وقلما تجد من يقول لهم كلمة تزجرهم أو تنهاهم عن تصرفاتهم الهمجية والحيوانية، إما إيثاراً للسلامة لأن عددهم كبير ولن يستطيع مقاومتهم، أو للانشغالات اليومية والحياتية والاقتصادية "كل واحد فيه اللي مكفيه"، أو "للنظرة السلبية للمرأة والتقليل من دورها في المجتمع" في ظل سيطرة التدين الشكلي وتبني مقولات من مثل "هو إيه اللي ملبسها كده"، أو "إيه اللي موديها هناك" وهي مقولات جاهلة وجاهلية أثبتت الأحداث والعديد من الدراسات أنها غير حقيقية فلم يعد ملبس المرأة ملاذاً آمناً لها ولا حتى سنها أو تدينها.
كذلك المستوى الاقتصادي لا يمكن أن يكون مسئولاً بمفرده عن هذه الظاهرة؛ فالقول بأن البطالة هي المسئولة عن هذه الظاهرة أمر غير دقيق، فمعظم حالات التحرًش المنتشرة بشكل يومي أمام المدارس أو في أماكن أخرى يقوم بها طلبة المدارس أو من هم في مراحل دراسية مختلفة، وبالتالي هؤلاء ليسوا في وضع بطالة، لأنهم لم يتقدموا لسوق العمل من الأساس، وإن لم يمنع هذا مشاركة العديد من الشباب العاطل عن العمل في هذه الممارسات الهمجية، بل إن هذه الظاهرة نفسها تؤثر على الاقتصاد؛ فما تتعرض له المرأة الأجنبية القادمة إلى مصر لغرض السياحة أو العمل أو حتى للإغاثة الإنسانية(20) من تحرّش وعنف لفظي وجسدي يفوق الوصف والتخيل خصوصاً لاختلاف معايير الأجانب عن المصريين في تعريف التحرش الجنسي، فالمفهوم أكثر اتساعاً عما هو سائد في مصر كما سبقت الإشارة، وهو ممارس للأسف حتى من العناصر المعنية بحفظ القانون ومنع مثل هذه الظاهر السلبية وإلقاء القبض على من يرتكبها، كما أن ما يحدث في ميدان التحرير يحتاج إلى دراسات منفصلة للتعرف على هذه الظاهرة من جوانبها المختلفة وخصوصاً ما يتعلق بفكرة "تشويه الميدان" أيقونة الثورة المصرية.
وهناك من يرجع هذه الظاهرة لتدني المستوى الثقافي وهيمنة ما يعرف بـ "أفلام السبكية"؛ حيث انتشرت على أيدي المشاركين في أفلامها هذه الظاهرة، ناهيك عن مضمون هذه الأفلام ذاتها التي تحتوي على إيحاءات وألفاظ وعبارات ومواقف غير أخلاقية ولكن هذا الأمر مردود عليه بأنها شركة إنتاج خاصة والمجال مفتوح على مصراعيه أمام الدولة من جانب، وأمام الشركات الأخرى لمنافسة هذه الشركة وتقديم فن هادف ومقاوم لهذه الظاهرة وقادر على المشاهدين بتقديم البديل المناسب إذا ما كانت هناك نية لدفع مثل هذه الظواهر الزاحفة على المجتمع المصري وغيرها من السلبيات التي باتت تضرب البلاد طولاً وعرضاً.
كذلك لم يتوقف تصاعد الظاهرة رغم اختلاف النظم السياسية، فمنذ اندلاع الظاهرة وتفاقمها لم يستطع أو لم يهتم بها من الأساس أي نظام سياسي سواء عسكري أو إسلامي، فقد تفاقمت الظاهرة في ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين وهي آخذة في التصاعد حتى الآن.
ومن هنا لا يمكن الحديث عن عامل واحد باعتباره مصدر انتشار هذه الظاهرة وتفاقمها ولكن المسألة تخضع لمنظومة من العوامل المختلفة الدينية والسياسية والثقافية والقانونية والاقتصادية والمجتمعية خصوصاً في ظل تراجع دور الأسرة وانشغال جميع أفرادها في البحث عن المعاش إن وجد وانشغالهم أكثر في الاستهلاك، ولم تعد الأسر تجري حواراً داخلياً بين أفرادها، أو أن يتابع رب الأسرة مسار أفرادها.
وماذا بعد؟
يتبقى لنا طرح التساؤل الأهم هنا هو "وماذا بعد؟"؛ فالظاهرة تستفحل ولا تجد اهتماماً يليق بها أو يوقف تقدمها، ويبدو أن المجتمع لا يراها في حجمها الطبيعي، أو أدمن رؤيتها على هذا المستوى، وأن النظام السياسي الحاكم (أيا كان) يتعامل معها كواحدة من المشكلات المؤجلة، ولم يحن الوقت لها، أو لا يراها مسئوليته من الأساس؛ ومن هنا يمكن الإشارة إلى الرؤية التي قدمتها منظمة نظرة للدراسات النسوية؛ حيث طالبت بـ "ضرورة إجراء حوار جاد وصريح حول ما تتعرض له النساء وحول ما يمكن فعله.. وذلك في ظل التأكيد على أن نساء مصر كن ولا يزلن يخضن معارك يومية للدفاع عن مساحاتهن وأدوارهن في الحراك السياسي، كما يخضن معارك يومية داخل وخارج ساحات التظاهر في مصر لكي يشاركن في كافة نواحي الحياة وسط انتهاكات يومية لا تعد ولا تحصى ووسط مجتمع أبوي يحتاج لقطع أشواط طويلة لكي يحترم حقوق النساء في التواجد والفعل على مستوى المجال العام والمجال الخاص. وضرورة تحمل الجميع مسئولياتهم أمام ما يحدث من فظائع ستنعكس على الجميع رجالا ونساء".(21)
كما قدمت دراسة صدرت عن المركز المصري لحقوق المرأة مجموعة من التوصيات أبرزها: ضرورة نشر الوعي بمفهوم التحرّش الجنسي، حيث يعتبره البعض بأنه يتمثل في الاغتصاب أو هتك العرض ولكنهم لا يدركون أن "التحرّش الجنسي" مفهوماً واسعاً يشتمل على العديد من السلوكيات التي تبدأ من مجرد التصفير والمعاكسات الكلامية مروراً بالمضايقات الجنسية بمختلف أنواعها اللفظية أو الجسدية... وصولاً إلى هتك العرض، وكذلك زيادة الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية والقانونية والاقتصادية وذلك بهدف التعمق في المشكلة بكل جوانبها وتفسيرها من زوايا مختلفة، وعمل دورات تدريبية لرجال الشرطة في كيفية التعامل مع قضايا التحرّش الجنسي، والعمل على تكثيف الوجود الأمني وسرعة تحرير المخالفات ومساندة الضحية، وإنشاء مكاتب خاصة بتلقي شكاوى التحرّش الجنسي من النساء اللاتي يتعرضن لهذا النوع من أنواع العنف، وأخيراً استحداث قانون لتحديد مفهوم الفعل وتجريمه وقواعد الإثبات فضلا على إعطاء صلاحية الضبط القضائي لضابط الأمن في الشارع وتحرير المحضر بدل القسم وذلك على نماذج معدة مسبقا أسوة بالمرور، كما يخصص لها سجل في القسم يكتب فيه من يرتكبها وإذا كررها تكون لها عقوبة.(22)
لا يسعنا إلا التحذير من أن استمرار هذا الوضع ينذر بكارثة إذا ما استمرت البلاهة والبلادة متلبسة الجميع - الرسمي والمجتمعي - بهذا الشكل خصوصاً في ظل تزايد جرأة المتحرشين وتراجع رد فعل المعترضين على التحرًش؛ وهو ما يفرض علينا العمل وفقاً لآليات جديدة تقوم على تشكيل مجتمعات موازية مقاومة للتحرّش وهي موجودة ولكنها لا تزال محدودة في العدد والقدرات وبالتالي في حجم الإنجاز المتحقق فلا تزال ظاهرة التحرّش في تزايد دون مقاومة تذكر أو تكافؤ في مقاومتها، كما يفرض علينا صحوة مجتمعية ملائمة كما حدث في مجتمعات أخرى كالهند على سبيل المثال التي انتفضت فيها مدن كاملة لمواجهة هذه الظاهرة، ومن ثم فمصر بحاجة إلى عمل جماعي يشمل القانونيين والإعلاميين والعلماء ورجال الدين للتوعية بخطورة هذه الجريمة وتثقيف المجتمع دينياً وقانونياً واجتماعياً وإنسانياً حتى لا يستمر هذا التدهور الذي يبدو بلا قرار.
التعريف بالباحث:
طالب دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، أخصائي اقتصاد وتجارة بوزارة التعاون الدولي، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة ومنها:
- العنف: من السلمية إلى الانفلات الأمني وتصاعد أنماط جديدة، ضمن التقرير الاستراتيجي العربي 2011/2012، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية القاهرة 2013.
- دائرة أسيوط الجنوبية نموذجا، في كتاب عن الانتخابات البرلمانية 2011 ـ2012، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2012م.
- الانتخابات والأحداث: صراع الشرعيات، ضمن المؤتمر الثاني للباحثين الشباب بمركز الحضارة للدراسات السياسية فبراير 2012م.
- تقديم كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" لرفاعة رافع الطهطاوي ضمن مشروع مكتبة الاسكندرية لإعادة نشر كتب التراث والصادر عن دار الكتاب المصري اللبناني 2012م.
- مستقبل الحركات الاحتجاجية، ضمن كتاب ثورة 25 يناير قراءة أولية ورؤية مستقبلية" الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام تحرير د. عمرو هاشم ربيع، 2011م.
- الرموز الإسلامية بين العالمين الغربي والإسلامي، حولية أمتي في العالم 2010م.
- مراجعات الجماعات الإسلامية في مصر، مجلة الغدير اللبنانية 2010م.
- حرب الخطابات وخطابات الحرب، حولية أمتي في العالم 2009م.
- مراجعات الإسلاميين، حولية أمتي في العالم 2008م.
- مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، في كتاب الجماعة الإسلامية في مصر الصادر عن مركز المسبار للدراسات، سبتمبر 2008م.