أزمة الفيلم العربي القصير

من ويكي أضِف
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

تمهيد

على مدار شهرين قامت سيما دكة بعرض 53 فيلمًا من أصل 56 فيلما كان من المقرر عرضهم من خلال برنامج (أيام سيما دِكَّة للفيلم القصير) في دورته الثانية، صيف 2020. هذه المجموعة من الأفلام تم اختيارها وتقديمها إلى جمهور من أصل 187 فيلما قصيرا، تقدم بهم مخرجات ومخرجين عرب، من مختلف أنحاء العالم، وهذا الملف يحتوي على 3 مقالات من وحي تجربة العروض والأفلام، والنقاشات حول الأفلام وصناعتها.


إنتاج الأفلام القصيرة

ترتبط الأفلام القصيرة بأفلام الطلبة أو أفلام المهرجانات أو الأفلام التي يصنعها المخرجون الشباب بغية أن يحصلوا على فرصة لصناعة الأفلام الطويلة، بعد أن تدور أفلامهم على المهرجانات السينمائية المختلفة باحثين عن فرصة عرض أمام جهة إنتاج كبيرة، قد تمنح صناع هذه الأفلام فرصة إنتاج أفلام أخرى، أو بالأحرى فرصة إنتاج فيلم طويل يمكنه أن يعوض صناع هذه الأفلام القصيرة، عما تكبدوه ماديًا في رحلتهم الفنية.

ولكن ألا توجد أفلام قصيرة إحترافية؟

بالطبع يوجد العديد من الأفلام القصيرة الإحترافية، ومنها أفلام لأشهر مُخرجي العالم مثل Martin Scorsese و Agnès Varda و Ingmar Bergman وغيرهم الكثير، لكن عربيًا لن تجد إلا القليل جدًا من الأفلام القصيرة لصناع السينما المشهورين، في مقابل مئات الأفلام القصيرة الجيدة لمخرجين ومخرجات في عمر الشباب.

إذا لماذا لا تكون هذه الأفلام القصيرة مشهورة؟

لا توجد سينما بدون جمهور، ولا توجد عروض للأفلام القصيرة حتى يكون لها جمهور، فقاعات السينما تتحكم بها شركات وجهات الإنتاج، وهي ذاتها التي لا تهتم بإنتاج الأفلام القصيرة من الأساس، كما أن الأفلام القصيرة تحتاج إلى مُعدي برامج، بإمكانهم تكوين برامج عرض تحتوي على مجموعات أفلام تصلح لبرامج العروض، وهي عملية فنية بحتة تختلف تمامًا عن النسق المادي المُتبع داخل شركات الإنتاج وقاعات السينما، التي تُقيم الأفلام من حيث عدد النجوم وكم يمكن أن يحققوا من إيرادات.

هنا تصبح الأفلام القصيرة حائرة، لا يتجاوز عمرها الافتراضي أكثر من 5 سنوات، وهي المدة التقريبية التي يمكن من خلالها أن يتم عرض الأفلام عبر مختلف المهرجانات السينمائية، ومن ثم تتحول إلى أجزاء من الذاكرة، أو محاولة من المخرجين الشباب لإثبات جدارتهم بإخراج الأفلام الطويلة، وكأن الفيلم القصير جزءًا من فيلم طويل أو تجربة مصغرة منه، أو نموذج للإخراج والتصوير وغيره من المهارات السينمائية.

من أين تبدأ المشكلة؟

على الرغم من أن الفيلم القصير يبدو من عنوانه بأنه فيلم قصير، فإنه لا يوجد على وجه التحديد تقدير لمدته الحقيقية، ويتم تركها لتقدير المهرجانات المختلفة، والتي تكتفي بأن تحدد أنه لا يتجاوز مدة ما، فبعض المهرجانات تقدر الفيلم القصير بأنه الفيلم الذي لا تزيد مدته عن 15 دقيقة، وأخرى تقدره بأنه لا يزيد عن 30 دقيقة، وغيرها 60 دقيقة، وهي فروق شاسعة بالقياس بين كل منهم، وهذا الفارق يعني أنك رُبما لن تُقبل في أحد هذه المهرجانات، وبالتالي أن تخسر جمهورًا محتملا قبل أن تبدأ العرض!

أين تكمن المشكلة؟

في مصر، يُطلِق مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على برنامج الأفلام القصيرة اسم (سينما الغد) وهو ما يحمل ضمنيًا مفهوم أن الأفلام القصيرة هي مجرد مرحلة تمهيدية، حتى يصبح صانع الأفلام متمكنًا بما فيه الكفاية ليقوم بصناعة الأفلام الطويلة "في الغد"، وهو ما يخالف أي اعتبار للأفلام القصيرة أنها نوع مستقل بذاته، وتغافل عن وجود أشكال وأنواع مختلفة للسينما، والمشكلة الأكبر أن هذا يصدر عن أقدم مهرجان سينمائي في العالم العربي،

فكيف يمكن أن نلوم على جهات الإنتاج؟!

يشترك أغلب صناع الأفلام القصيرة في شكوى موحدة تتعلق بإنتاجية الأفلام القصيرة، فجهات الإنتاج لا تُدرك أن الفيلم القصير هو فن مستقل بذاته وله خصائصه الفنية الفريدة، وتتعامل معه باعتباره مجرد تجربة فنية لا قيمة تجارية لها أو فائدة مادية منها؛ في حين أنه يبقى المتنفس الوحيد للعديد من صناع الأفلام الذين يأملون في تقديم إسهام فني ما.

حين تكون الأزمة هي الفرصة

تتمتع الأفلام القصيرة بحرية إبداعية عالية، وهذا لأنها ليست النوع المفضل من الأفلام لدى شركات الإنتاج السينمائي، وهو ما يعني حرية أكبر في اختيار العوامل الفنية، دون تدخل تجاري في اختيار تلك العناصر، ولا يتم وضع محاذير تجارية يمكنها أن تؤثر على صناعة تلك الأفلام، فإن تعبير "فيلم مهرجانات" يتحول إلى صك وتصريح بإمكانية كسر المحاذير التجارية لصناع الأفلام، وهي محاذير اجتماعية وسياسية ودينية، وتسمح بفرصة مناقشة القضايا بشكل مباشر دون وضع اعتبارات مُعوِقة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يتم السماح بعرض المشاهد العارية من خلال المهرجانات، فهي لا تخضع للرقابة أو مقصها، وهو عكس ما يمكن أن يحدث في قاعات السينما العامة داخل البلاد العربية، وهو ما ينطبق أيضًا على القضايا الدينية والاجتماعية، كما أن عملية إنتاج الأفلام القصيرة تطمح دائمًا إلى توزيع الأفلام بشكل عالمي، وهو ما يمنحها فرصة كسب جمهور جديد، ولا تتوقف عند جمهورها المحلي فقط، فهي دائمًا ما تكون وجبة سينمائية مكثفة تجمع بين التجربة البصرية والمرجعية الثقافية التي أنتجت هذا الفيلم، وأمكن للمشاهد الغريب أن يتعرف عليها في مدة قصيرة.

ولكن تبقى الأزمة هي الأزمة

يسود اعتقاد ما بأن الأفلام القصيرة لا تتكلف كثيرًا، ولكن على أرض الواقع فإن الحرية الإبداعية للأفلام تستدعي أفكارًا ورؤى لا يمكن تحقيقها بسهولة دائمًا، وفي أغلب الأحيان تتطلب إنتاج مادي كبير وطاقم عمل محترف، وهو ما يعني استمرار الاحتياج إلى جهات إنتاجية بإمكانها تمويل هذه المشاريع، حتى يتسنى لهم استخدام التقنيات الحديثة، وهنا تتضح الدائرة المفرغة، لا توجد مشاريع إبداعية ضخمة دون تمويل، ولا تمويل دون وجود أغراض تجارية مُتدخِلة، أو تجاهل للقيمة الفنية الخاصة بالأفلام القصيرة، وقبل كل ذلك هو تعويض صناع هذه الأفلام ماديًا، فبعضهم يعتمد عليها كمصدر دخل أساسي له، والبعض الآخر يتطوع بتمويلها من مصادر دخلهم الخاصة، دون توقع أي عائد منها.

التكنولوجيا والأفلام القصيرة

بعد التطور النوعي الكبير للتكنولوجيا، وتوفير أدوات تصوير وتسجيل حديثة بشكل محمول وبسيط، أصبحت مهمة صناعة الأفلام أكثر سهولة، فكاميرات الفيديو أصبحت رقمية، فلا تحتاج إلى أمتار طويلة من شرائط الخام التي تستدعي ثروة كبيرة لتحميضها وعرضها، وكذلك شرائط الصوت وأدوات المونتاج، وإمكانيات الجرافيك والرسوم المتحركة، وغير كل ذلك أصبحت هناك الهواتف المحمولة متعددة الاستخدامات، والتي منحت الفرصة للتصوير وتسجيل الصوت بجودة مقبولة، حتى أن بعض المهرجانات قد ظهرت على الساحة وتخصصت في سينما الموبايل، وهي كلها فرص وآفاق تفتح الباب أمام الطامحين في صناعة الأفلام، ولكنها على الجانب الآخر لا تحل بشكل نهائي أزمات إنتاج الأفلام القصيرة، بل تعزز أحيانا فردانية العمل الفني، بعد أن كان عملا جماعيًا، يشترك به مجموعة من الفنانين، ولكل منهم دوره الخاص، فصناعة السينما دائمًا ما كانت الملاذ الأخير لبعض الأعمال التي تندثر، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في مصر كانت توجد قديمًا حرفة تتعلق بفن (الأرابيسك) والتي بدأت تندثر مع الوقت، ويختفي معها فنانين وحرفيين مهرة ولا يتم الاعتماد عليهم، وكان ملاذهم الوحيد هو الأعمال السينمائية التي قد تحتاج إلى بعض أعمالهم الفنية في الديكورات، وهذا دور اجتماعي قامت به السينما مع العديد من الحرف والفنون، ومن غير المعقول أن يتم استبدال هذا الدور بشكل مفاجئ عن طريق الديكورات التي تعتمد على الجرافيك، وغيرها الكثير من التفاصيل الفنية.

قاعات السينما وشاشات الهواتف

في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص في العام 2020، تربعت شبكات ومنصات الترفيه الإلكتروني مثل Netflix و HBO وغيرها الكثير، على عرش الترفيه والمشاهدات، وقدمت حلولًا لعروض الأفلام والمسلسلات بشكل سهل عبر الهواتف المحمولة وشاشات الكمبيوتر، بدلا من قاعات السينما وشاشات التلفزيون، وهي بالطبع وسيلة سهلة للعرض، ولكنها تعزز من فردية العروض وتقليل من جماعية المشاهدة، وهي أشياء كانت تتميز بها قاعات السينما، حتى أن بعض الأفلام على مر التاريخ قامت على رصد ردود الأفعال لمُشاهدي السينما في القاعات، وتأثرت نوادي السينما والتي كانت تقوم بدور هام في إثراء النقاشات حول الأفلام وفنياتها ومحتواها، وحتى حرمان صناعها من سماع تعليقات الجمهور بشكل مباشر والنقاش معهم.

كل هذه المنصات المتعددة تفتح آفاق جديدة للعديد من صناع الأفلام القصيرة الطامحين في عرض أفلامهم على الجمهور، بدلا من أن تختفي إلى الأبد أو تتحول إلى مساحات تخزينية داخل الحواسيب، وربما توفير وتقديم عائد مادي إلى صناع هذه الأفلام يُمكنهم من صناعة المزيد، بالطبع إلى جانب العائد الفني لعرضها على الجمهور بعد أن رفضتها صالات السينما، وتحقيق الغرض الطبيعي لصناع السينما وهو العرض والمشاهدة، وهو ما يحفز صناعها إلى إنتاج المزيد والمزيد منها، بدلا من أن تندثر صناعة الأفلام القصيرة أو يتم حصرها في أفلام للطلبة فقط، فهي نوع وشكل سينمائي مستقل بذاته ولا يمكن أن يتم اعتباره جزءًا من نوع آخر أو نموذج له.