المشروع البحثي "إنتاج العام"
الخريطة أداة معرفية تمنح من يملكها قوة ما. فبالخريطة ترسم الحدود و الملكيات و تثبت حقوق و تنتزع أخرى، و في أحيان كثيرة تكون الخريطة هي وجه التاريخ. رحلة إنتاج الخريطة هي رحلة اكتساب المعرفة و القوة.
يعيش أكثر من ستّون في المئة من سكّان القاهرة في مجتمعات غير رسمية؛ مجتمعات "جهود ذاتية"، برغم حداثة نشأتها فإن تلك المجتمعات العمرانية لم تخططها الدولة على مرّ وجودها و لم تقدّم لها الدولة من الخدمات غير النزر اليسير، و في حالات قليلة. بالرغم من أن بداياتها كانت تحت ناظري الدولة في أوج فورة التخطيط المركزي في ستينيات القرن العشرين، التي واكبت موجة نزوح من الريف إلى مدينة لم تكن مستعدة لاستقبالهم، أدت إلى ترييف المدينة فأصبحت القاهرة في مجملها بمثابة "قرية متضخمّة"، و هي ظاهرة تشترك فيها مدن العالم الثالث الكبرى. تشترك تلك المجتمعات العمرانية المكتظة، إلى جانب سمات عديدة، في أنها جميعا غير موجودة على الخريطة الرسمية.
و برغم أن سكان تلك المناطق يشكلون أغلبية القاهريين إلا أنهم منذ دخلوا في الوعي الرسمي للدولة كانوا مُستبعَدين من مفهوم "الجمهور" و "العامة" من وجهة نظر الدولة. من تبعات ذلك أنها تستثنيهم من القدر الواهي من التخطيط و الخدمات الأساسية التي تقدمها لباقي سكان المدينة. فتلك المناطق خارج نطاق كلّ الشبكات الرسمية التي تتوقف عند حدودها و لا تدخل إليها: الطاقة، من غاز و كهرباء، و المواصلات العامة التي تشغلّها الحكومة، و عادة ما يكون الصرف الصحي و المياه أوّل الخدمات التي تصله متأخرة إلى المناطق غير الرسمية، بسبب حساسيتهما كخدمتين مرتبطتين بالصحة العامة.
لكن علاقة الدولة بسكان المناطق المهمشّة معقدة، فمشكلات تلك المناطق إرث فشل الدولة في إدارة الحواضر المتضخمة، و تلك المشكلات نفسها في الوقت ذاته ذريعة تستخدمها الدولة للتنصل من مسؤوليتها عن تدهور طبيعة الحياة فيها، فسكان تلك المناطق دوما ملامون بأنهم "عشوائيون" و "غير منضبطين" و "تشيع في أوساطهم الأمراض الاجتماعية" و "تزيد بينهم النزعة الإجرامية" و هم في نظر الدولة عقبة في طريق تمدين و تحضير و "تجميل" الحواضر، لدرجة تصل معها الممارسة الفعلية إلى السعي إلى تجاهل وجودهم بإخفاء مناطق سكنهم وراء أسوار عالية على الطرق التي تربط بين الأحياء الأكثر رفاهية التي يحتمل أن يسلكها السوّاح و الوافدون و الزائرون، و بناء طرق معلّقة\مرتفعة فوق تلك المناطق تربط الطرق المحورية، و تبييض (طلاء) الصف الأول من المباني المطلة على تلك الطرق.(1)
و إذا كانت ظاهرة الاحتجاجات المدنية، بما يشوبها من عنف من طرف الدولة و المتظاهرين ظاهرة دخلت الوعي الجمعي المصري المعاصر مع أحداث ثورة يناير 2011، فإن المناطق المهمشة كانت على الدوام مسرحا لعنف متبادل بين سكانها و الدولة، يتراوح بين الكتمان و الانفجار، لكن أخبارها لم تكن تلقى الاهتمام المحلي و العالمي لأسباب عديدة. لكن حتى عندما صارت الاحتجاجات و العنف المرتبط بها محطّ أنظار و اهتمام و تحليل الإعلام في الداخل و الخارج فإن قليلين هم الذين تمعّنوا في طبيعة الأبطال الفعليين لتلك الاحتجاجات، و جُلّهم من سكّان المناطق المهمّشة، بينما استسلم المراقبون و المحللون لسحر ما صار يعرف بنموذج "شباب 25 يناير الطاهر" و أُهمل نموذج ما تُمكن تسميته في المقابل "بشباب 28 يناير الغاضب"
من ناحية أخرى سعت الدولة لسنوات طويلة إلى نزع فتيل الثورة عليها بطريق عرقلة كلّ مساعي التواصل الأفقي بين مكونات المجتمع المدني و استبدالها بقنوات اتّصال رأسية مع مؤسسات عاجزة تنشئها و تتحكم فيها من منطلقات "أمن الدولة" و "الأمن القومي" امتدت فعليا لتشمل كلّ مجالات الحياة مما أدى إلى عجز عن إنتاج حلول مناسبة لتطوّر المجتمع، شمل هذا التعليم و البحث العلمي، كما شمل التخطيط المدني.
يُزاد على ذلك وجود شبكة مصالح اقتصادية ترى في الأراضي التي وُجدت عليها تلك التجمعات ثروة و فرصة غير مستغلة، خاصة بعد استنزاف أصول القطاع العام خلال سنوات الخصخصة، و بخاصة في المناطق التي أصبحت فعليا في وسط المدينة حيث تندر الأراضي الصالحة للمشروعات الاستثمارية، فصارت تلك الأراضي موضوع صراع بين المستثمرين المدعومين من الدولة من جانب و سكّان المجتمعات المقامة على تلك الأراضي من جانب آخر.
بالبناء على خبرة متراكمة لدينا في مجال رسم الخرائط و بالتشارك مع عمرانيين معنيين بمسألة العمران في الحواضر و حقوق السكن و الحق في المدينة نُقارب هذا المشروع العملي التجريبي من منطلق أنه وسيلة للاشتباك الجذري مع مجتمعات نشيطة قيد التشكل في هذه اللحظة الفريدة، لحظة إعادة تشكيل العقد الاجتماعي، بأطروحتنا أساسها أن القدرة على إنتاج المعرفة و نشرها و تبادلها باستخدام وسائل تقنية حديثة و يسيرة الاستخدام يقوي الناس، أي العامة، في تفاوضهم الدائم مع الدولة، و يمنحهم قدرة على التعاطي كأنداد على المستوى المعرفي و الوصفي لمشكلاتهم مع مشروعات التحديث و التنمية، أو مع تهديدات الطرد و الإزالة متسلحين برؤية صالحة للقاء على نفس الأرضية التي يجدون أنفسهم عليها في هذا النوع من الصراعات و التفاوضات، كما أنها قد تتيح فرصا هي الأغلب لا يمكن أن تطرأ على بالنا، كما هو الحال مع كل مشروعات
ينحو المشروع إلى أن تكون تلك المعرفة الناتجة منشورة في الملك العام، و باستخدام أدوات تقنية حرّة بالانخراط في مجتمع تشاركي لإنتاج المعرفة هو نموذج على نمط جديد في التنظيم و التعاون، و يطرح في الوقت ذاته أسئلة عن "الحقيقة و الصّواب" فيما يتعلق بالمعرفة و عن مقوّمات و أهلية "الخبراء" و عن ماهيّة "الخريطة" و عمّن ينتجها.
بطريق عقد عدة ورشات تدريبية و نقاشية تنتج عن المشروع مُراكمة لمشاهدات و رصد لتجربة التواصل مع شباب النشطاء في تلك المناطق و نقل المعرفة إليهم، ربّما تصلح مدخلا لتحليل أكثر عمقا في المستقبل، و كذلك ينتج منهج تدريبي يصلح لتكرار التجربة لاحقا.
كل ّالمعرفة الناتجة عن المشروع تكون منشورة برخصة حرّة تتيح النسخ و التداول و البناء عليها و الاشتقاق منها.
المشروع خطوة تالية لأنشطة سابقة تعاون على إنجازها أفراد متعددو التخصصات و الاهتمامات معنيون بمسائل العمران و المعرفة الحرة و البرمجيات الحرة و الخرائط، و عي أنشطة في مجملها كانت تهدف إلى:
- تمكين المشاركين من أدوات تقنية متنوعة لإنتاج معرفة مقابلة للأنساق المعرفية الرسمية التي هم مستثنون منها بحكم تركيبة السلطة.
- تشبيك المشاركين بمجتمعات عالمية تنتج و تنشر معرفة تشاركية مشاعية، و تعريفهم بنماذج البرمجيات الحرّة و المعرفة الحرة، و منهجية العمل التشاركي التطوعي المنظم عبر الإنترنت.
- الاشتباك مع مفاهيم الحوكمة المحلية، الموجودة عندهم بالطبيعة.
- تقوية العناصر المتفاعلة مع مؤسسات الدولة و المؤسسات التنموية المختلفة بطريق تمكينهم من بعض أدوات المجال المعرفي العمراني التنموي،و هو الخرائط العمرانية، على أمل زيادة قدرتهم على وصف احتياجاتهم و تحسين قدرتهم على التفاوض.
____ (1) طالع مثلا أسوار طريق صلاح سالم، و دهانات العقارات الواقعة على الطرق المحورية في مداخل المدن، و حادثة طلاء ميدان السيدة عائشة إبان زيارة الرئيس الأمريكي جامعة القاهرة سنة 2010.